تأصيل

حتى لا يكون الانتساب إلى «أهل السنة» سبيلًا إلى التنازع

سَلْبُ مُسمى أهل السنة عن أي مذهب يُورث الفرقة والتنازُع مع أهله، إلا أنه لا مناص منه في الطوائف التي تبنّت بدعًا فاحشةً فرّقت الأمة وناصبتها العِداء كالخوارج والرافضة. أمّا حين لا تكون البدعة كذلك، وتكون المخالفة لمنهج أهل السنة في مسائل دون مسائل، فإنَّ الإنصاف يقتضي من المتخالفين التفصيل، فيُقال: خالفتْ أهل السنة في كذا، دون الإطلاق. وهذا أبعدُ عن التنازع، كما أنَّه يُحقق الأمر الشرعي ببيان الحق وحفظ الدين.

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

كلَّما ازدادت على أمة الإسلام المحن، وتكالبت عليها الأمم، تعالت الصيحاتُ التي تدعو إلى الوحدة والاجتماع، وتندُب الفُرقة والتنازع، وتُرجع إليهما أسباب العجز والهوان. والأمَّة وإن كانت كلُّها مخاطَبَةً بالائتلاف وترك الفُرقة، إلا أنَّ الخِطابَ يتوجَّه أوّل ما يتوجّه إلى المقدّمين في الأمة ورموزها ومرجعيّاتها، وعلى رأسِ هؤلاء العلماءُ وطلابُ العلم؛ لما لهم من مكانة وتقدير في قلوب عامة المسلمين، إذ يتطلّعون إلى مواقفهم ويَصدُرون عن أقوالهم([1]).

ورغم صدق هذه الصيحات وغَيرتها، إلا أنها تبقى في دائرة الانفعال والكلام، ولن يكون لها أثر في الواقع ما لم نتلمّس خطوات عملية للتحرُّك نحو إزالة الفُرقة والتخفيف من حدَّة التنازع.

وكثيرًا ما تنادي هذه الصيحات بإزالة الخلاف من جذوره سبيلًا إلى الاجتماع وترك الفُرقة، وهذا أمر مطلوب حين يمكن تحقيقه، لكن نعلم يقينًا بالشرع والعقل أن إزالة الخلاف تمامًا -والحديث عن قضايا كلية كبرى وليس عن جزئيات يسيرة- أمرٌ غيرُ ممكنٍ دائمًا، فهل نبقى حبيسين لهذا الوضع؟ الجواب: كلا، فحين لا يُمكن إزالة الخلاف فلننتقل إلى إدارة الخلاف، حتى لا نجعله سببًا للتنازع والفرقة والبغضاء ما أمكن.

حين لا يُمكن إزالة الخلاف ننتقل إلى إدارة الخلاف، حتى لا نجعله سببًا للتنازع والفرقة والبغضاء ما أمكن

أثر التصنيف في التنازع:

من جملة ما يُثير العداوات ويبثُّ الفرقة والتنازع مسألة التصنيف، وأقصد هنا بها تحديدًا: نسبة طائفةٍ أو مدرسةٍ أو مذهبٍ بعينه إلى وصفٍ لا يرضاهُ أصحابه، أو سلبُهم وصفًا يُثيرهم أن يُسلب عنهم.

أمّا كون التصنيف -بالتعريف الذي ذكرناه- يورثُ العداوة والفُرقة، فهذا أمرٌ لا يُجادَل فيه. يقول الشاطبي رحمه الله في تعليقه على حديث الافتراق المشهور، معللًا عدم تعيين تلك الفرق: » أيضًا فللسِّتر حكمةٌ أخرى وهي أنَّها لو أُظهِرت مع أنَّ أصحابها من الأمّة لكان في ذلك داعٍ إلى الفُرقة وعدم الأُلفة التي أمر الله ورسوله بها، وفي الحديث: (لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانًا). فإذا كان في مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيًّا عنه«([2]).

لكن الشاطبي رحمه الله يستدركُ أنَّ هذا غيرُ ممكنٍ بإطلاق، فيقول في الموضع نفسه: »إلا أنْ تكونَ البدعة فاحشةً جدًّا كبدعةِ الخوارج… ويُلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك فالسكوتُ عنه أولى«([3]) فحين تكون البدعة فاحشة جدًا، لا يمكن السكوت عن التعيين، بل لا بدَّ من وصف الفِرقة المعيَّنة بالضلال، ولو ترتَّب على ذلك عداوةٌ وفُرقة. وقد عدَّ الشاطبيُّ من ذلك الفِرَقَ التي نبَّه الشرع على تعيينهم، والفرق التي تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام.

حين تكون البدعة فاحشةً جدًا – كبدعة الخوارج والرافضة – لا يمكن السكوت عن التعيين، بل لا بدَّ من وصف الفِرقة المعيَّنة بالضلال، ولو ترتَّب على ذلك عداوةٌ وفرُقة

ولنقف مع القيد الذي ذكره الشاطبي رحمه الله فنسأل: هل يمكن ضبط درجة »الفُحش« التي يسوغُ معها تصنيف هذه الفرق ووصفها بما لا ترضاه، ولا ينبغي السكوت عنه؟

من البديهي أن نُدخل في ذلك الطوائف أو المذاهب التي حملت اسم البدعة ذاتها، كالرافضة، أو الخوارج، أو القدرية، أو الجبرية، فإنَّ نسبة هذه الطوائف إلى الضلال تحصيلُ حاصل، إذ عنوانها يدلُّ عليه، وحين تُوصف بالضلال فالوصف مُنصرفٌ إلى العقيدة التي تظهر في اسمها، وهذا بيّن.

وحيث كان المانع من التصنيف هو خوفُ الفُرقة وعدم الأُلفة، وما يورثه من العداوة والبغضاء، فإنَّ بعضَ البدع إنَّما قامت على العداوة والبغضاء وتفريق جماعة المسلمين، كبدعة الخوارج بتوسُّعهم في التكفير واستحلال دماء المعصومين، بل وجعْل مرتكب الكبيرة من المرتدِّين الذين هم أَولى بالقتل من الكفّار الأصليِّين، فصاروا يَقتُلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان. وقل مثل ذلك وأشدَّ منه في الرافضة الذين قام دينهم على بُغض الصحابة رضوان الله عليهم وتكفيرهم إلا عددًا قليلًا منهم، وعلى تكفير »النواصب« واستحلال دمائهم، وعلى أنَّ قتلهم سبيلٌ إلى الجنة، فهذه الفِرَقُ وأشباهها قد ناصبت الأمة العداء جهارًا نهارًا، فليس في تصنيفها بالضلال مزيدُ عداوةٍ بعد الذي أعلنوه، فانتفت المصلحةُ بالسكوت عنهم، بل الواجبُ فضحُهم والتحذير منهم بكل سبيل.

وقد يُعدُّ من البدع الفاحشة جدًا تلك التي خالفت عقيدة جماهير الأمة في القديم والحديث، ولا يُعرف لرؤسائهم القائلين بها علمٌ ولا فضلٌ في الإسلام، إذ لا يقولُ بقولهم عالم معتبر، وضلالهم ظاهر لصغار طلبة العلم بل والعامة أحيانًا فضلًا عن العلماء، كبدعة »القرآنيين«، فهذه البدع في الغالب بدعٌ مكفّرةٌ مُخرجةٌ من الملّة، والحمد لله أنَّهم في الأمة قليل، ولا أثر لخلافهم وعداوتهم.

أما حين ينتسب المذهب إلى اسمٍ لا دلالةَ فيه على باطل في ذاته، كالانتساب إلى عالمٍ، أو بلدٍ، أو اسمٍ استحسنهُ أصحابُه، ويكون فيه – بحسب نظر مخالفيه – حقٌّ وباطل، ويكون الباطل – بحسب نظر مخالفيه أيضًا – في مسائل »علمية« ليست مبنيةً على بغضاءٍ وعداوة مع الأمّة، كأنْ تتعلَّق بالأسماء والصفات أو القدر أو موقع العقل من النقل وأشباهها، وينتسب إليه من لا يُنكَر علمُهم وفضلهم في الإسلام: فيجبُ الحذرُ من التصنيف بالمعنى الذي قصدناه وهو إطلاق وصف عام على المذهب لا يرضاه أصحابه؛ وذلك رعايةً للائتلاف ودفعًا للعداوة والفرقة.

بيان أنَّ هذا الاعتقادَ باطلٌ أو أن ذلك الأصلَ بدعةٌ محدثة، فهذا دينٌ لا مُداهنة فيه، وإنْ كان ينبغي أن يُستعمل في بيانه الحكمة

ولا ينبغي أن يُفهم من ترك التصنيفِ »السكوتُ عن الحق« أو »تلبيسُ الحقِّ بالباطل« أو »تمييعُ الحق«، إنَّما الكلام في إطلاق حكمٍ عامٍّ على مذهبٍ أو فرقةٍ أو طائفةٍ بعينها، أما التفصيل وبيان أنَّ هذا الاعتقادَ باطلٌ أو أن ذلك الأصلَ بدعةٌ محدثة، فهذا دينٌ لا مُداهنة فيه، وإنْ كان ينبغي أن يُستعمل في بيانه الحكمة بحسب المصلحة زمانًا ومكانًا وحالًا وجمهورًا.

التنازع حول اسم “أهل السنة”:

»أهل السنة« مصطلح يعني في استعماله الخاص عند المنتسبين إليه »أهل الحقّ«، وهو مُرادف عندهم لـ »الفرقة الناجية«. وعليه فلا عجبَ أن يدَّعيه كثيرٌ من المذاهب الإسلامية، ولا عجبَ أيضًا أن يكون سَلبُه عن طائفةٍ أو مذهب بأن يقال: الطائفة الفلانية »ليست من أهل السنة«، سببًا للعداوة والبغضاء والتنازع والخصام.

وبناءً على ما تمَّ بسطه في مقدمة المقال نتساءل: هل يجب على كل مذهب يرى أهلُه أنهم على الحق – والكلُّ يرى أنَّه على الحق – أنْ ينُصَّ على حصرِ أهل السنة فيه وفي طائفته، وأنْ يُعلن أنَّ غيره ليس من أهل السنة؟

وحتى لا نُعمِّم الحديث فنضطرَّ إلى وضع الكثير من الضوابط والاحترازات، فإنني سأقتصر في إجابة السؤال على حالة حاضرة في الأمة، إذ هي التي حُرِّر المقال لأجلها، وهو تنازع اسم أهل السنة بين »أهل الحديث« و»الأشاعرة«([4]).

وقد اجتهدتُ في المقال التزامَ لغةِ الحياد بين المذهبين ما أمكن، إذ ليس المقام مقام انتصارٍ لأحدهما على الآخر، بل النصحُ لأنصار كلا المذهبين، فاقتضى الأمرُ الحياد، حتى أني تركت النقل عن العلماء السابقين من المدرستين حتى لا يُحسب النقلُ على هذا المذهب أو ذاك، إلا أن يكون النقل خارج محل النزاع.

ونُقرر ابتداءً أن الخلاف بين المذهبين خلافٌ في مسائلَ من الاعتقاد، وهو خلافٌ في أصولٍ لا فروع، ومن يُهوّن الخلافَ أو يُلفقُ بين المنهجين فهو لم يُحط بقواعدهما. وهو خلافٌ تاريخيٌّ منذ أيام الأئمة أحمدَ بن حنبلَ وابن كُلّاب، ثمّ البَربهاري والأشعري، ثم أبي جعفر وابن القشيري، ثم الجَيلاني والإسفرائيني، ثم ابنِ تيمية والسُّبكي، رحمهم الله أجمعين، ولا يزال الخلاف قائمًا إلى عصرنا هذا. وقد يتحول الخلاف إلى صراع، فيقوى أحيانًا ويخبو أحيانًا، وذلك بالنظر إلى وَرَع أعلام المذهبين في كُلِّ عصر، أو تدخُّل الحاكم في الصراع لصالِح أحدِهما، أو استقواء أحدِ المذهبين على الآخر بالحاكم، أو حالة الأمّة من حيث الترف والترهُّل أو الجهاد والعمل.

ومع قولنا إنَّ الخلافَ بين المذهبين قائمٌ ومتَّسع، إلا أن عوامَّ المسلمين لا يُدركون شيئًا من الفروقات بينهما، بل إنَّ كثيرًا من أتباع المذهبين من المُعاصرين لا يدركون كنْه الخلاف بينهما، وإنَّما يتناقلون عُمومياتٍ وعباراتٍ مُجملة من كلام السابقين، ونُتفًا من المسائل الخلافية المشتهرة، ويصطفُّ كل مجموعة من الأتباع مع متبوعيهم »ولاء« للمذهب، تعصُّبًا وتحزُّبًا.

من جهة أخرى، فإنَّه مهما قلنا عن الخلاف بينهما، فيبقى ما بينهما من التقارُب بالنظر إلى الفِرق الأخرى كبيرًا. كما أنَّ جماهير أهل العلم الموثوقين في العالم الإسلامي اليوم هم من أتباع هذين المذهبين تحديدًا، وهم في خندقٍ واحد أمامَ حربٍ ضروسٍ شرسةٍ على الهوية لا تُميز بينهما، فتنازع أتباع المذهبين ومعاداة بعضهم لبعض وبالٌ كبيرٌ على الأمة.

أهل الحديث والأشاعرة في خندقٍ واحد أمامَ حربٍ ضروسٍ شرسةٍ على الهوية لا تُميز بينهما، فتنازع أتباع المذهبين ومعاداة بعضهم لبعض وبالٌ كبيرٌ على الأمة

وفي الفترات العصيبة في التاريخ الإسلامي مثل أيام غزو التتار والهجمات الصليبية، لم تُفرِّق هذه المذاهبُ الأمّة، بل انضوى الجميع تحت مظلَّة الإسلام الجامعة لمواجهة الخطر الداهم، بالرغم من استمرار مناظراتهم العلمية ورُدود بعضهم على بعض. وفي العصور التي ابتُلي فيها المسلمون بظهور أمر البدع الفاحشةِ كالرافضة والمُعتزلة والفلاسفة، انبرى لها المذهبان بالصدِّ والتفنيد، وكانت جُهودهم تتكامل في ذلك، ويُثني بعضهم على بعض، ويَعرفُ كلٌّ منهما للآخر فضلَه. 

على ضوءِ ما تقدَّم، كيف ينظر كلُّ مذهبٍ إلى انتسابِ الآخَر إلى أهل السنة؟

ولعلَّنا نُشير هنا إلى مَسلك بعض أهل العلم بتقسيم مُصطلح أهل السنة إلى إطلاقين: إطلاقٌ عامٌّ في مقابل الفرق التي اتَّفق أهلُ العلم على ضلالها لمخالفتها أصول الإسلام كالرافضة والخوارج والقدرية والمرجئة، وخاصٌّ ليدلَّ على من سَلِمَ من الشُّبهات في الاعتقاد. وبهذا التقسيم فإنَّ كلًا من المذهبين يُدخل المذهبَ الآخر في الإطلاقِ العامِّ، ولا يُدخله في الإطلاق الخاصّ. ولعلَّ في هذا التقسيم فوائدَ في سياقات أخرى، لكنَّه في سياق النزاع حول الاسم لا يفعل شيئًا إلا أن ينقُل الصراع إلى ساحة الإطلاقِ الخاص، إذ يَبقى نفيُ اسم »أهل السنة« عن طائفة ما بأيِّ اعتبار كان، سببًا للفرقة والعداوة.

من يدخل في “أهل السنة”؟

يمكن أن نُميِّز ثلاثة اتجاهات للعلماء في الانتساب إلى أهل السنة:

فريقٌ يدعو إلى استيعاب كلا المذهبين -ومذاهبَ أُخرى قريبةٍ منهما- تحت اسم أهل السنة، بإطلاق وحيد، ليس فيه عام وخاص.

وفريقٌ ذهبَ إلى أنَّ من خالفَ أهل السنة في شيءٍ واحد أو أكثر من أصول العقيدة لم يكن من أهلها، وإذا لم يكن من أهلها جازَ أن يُقال عنهم: ليسوا من أهل السنة.

وفريقٌ يرى أنَّ من خالف السنة في باب من أبواب الاعتقاد ووافقها في بابٍ آخر فهو من أهل السنة فيما وافق فيه السنة، وليس منهم فيما خالفهم فيه، وأنَّ إخراجَ قومٍ من مسمّى »أهل السنة« بإطلاق؛ لأنَّهم خالفوا السنّة في بابٍ دون باب، فيه مُجانبةٌ للعدلِ والإنصاف، فإنّا إذا أطلقنا القول بأنَّهم ليسوا من أهل السنة، كان ذلك حُكمًا بأنهم خالفوا السنة في كل أبواب الاعتقاد، والأمر ليس كذلك؛ فقد وافقوا أهل السنة في بعضها دون بعض.

إخراجُ قومٍ من مسمّى «أهل السنة» بإطلاق؛ لأنَّهم خالفوا منهج أهل السنّة في كذا ووافقوه في كذا، فيه مُجانبةٌ للعدلِ والإنصاف

فأيُّ هذه الاتجاهات أولى بالاتباع؟

أمّا القول الأول، فهو في الحقيقة خلطٌ لا يَقبلُ به من يُمثل هذه المذاهب ويقرر منهجها فعلًا. ولعلَّ القائلَ به رأى أنَّ الخلاف بينهما مما يسوغ الخلاف فيه، وليس الأمر كذلك، فإنَّ الخلاف بينهما هو في مسائلَ وكلياتٍ كبرى، مثل طرائقِ الاستدلال، وسُلطة العقل والنقل، ومسائل الإيمان، والأسماء والصفات، والقَدَر، وأمثالها، ولا يُمكن بحالٍ أن نجعل أقوالهم الخلافية المتضادّة منهجًا لأهل السنة. فإمّا أنَّ الحقَّ في تقديم العقل على النقل حين بدوّ التعارض، أو أنَّه في تقديم النقل على العقل، وإما أنْ يكون الحقُّ في إثبات الأسماء والصفات كما جاءت على ظاهرها من غير تأويل ولا تعطيل، أو أنَّه في التأويل لنفي توهم مشابهة صفات المخلوقين، وإما أنْ نقول إنَّ أوّل واجب على المكلف التوحيد، أو نقول أول واجب هو المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر. فالطريق إلى إزالة الخلاف هو أن يعود الجميع إلى الأصول ذاتها، وهذا طريقه الحوار والمُدارسة العلمية لا التلفيق ونسبة المتناقضات إلى منهج واحد، فهذا مما يتنافى مع القواعد العلمية.

وأما القول الثاني، فلا بدَّ من كلمةٍ بين يديه. فإنَّه وإنْ نُقل عن بعض الأئمة، إلا أنَّ النقل عنهم كان نقلًا مُخلًّا في كثير من الأحيان، اقتصر بعض الناقلين على عبارات نُزعت من سياقها، أو رُبَّما أُخذت من كتب الردود والمناظرات والتي قد تحتد اللغةُ فيها، بخلاف التقريرات الهادئة. ولو قُرئت في سياقها، وجُمع إليها ما قيل في مواطن أخرى من الثناء على المذهب الآخر، وذكر فضل أهله وجهودهم في نصرة الإسلام والذبِّ عنه، لما تشكّلت هذه الصورة المتوهَّمة من الخصومة، بل لظهر فضلُ هؤلاء العلماء وأدبهم وإنصافهم في التعامل مع مخالفيهم. وإنَّ ما يعنينا هنا هو كلام أئمة المذهبين وأعلامِهما من المشهود لهم بالعلم والدين.

ثمَّ نقول: هل ما جاء عن بعض العلماء المتبوعين من كلا المذهبين من التصريح بإخراج المذهب الآخر من مسمى أهل السنة -باعتبار ما- يُلزم من بعدهم؟ ألا يجبُ على علماء كل عصرٍ النظر في المصالح والمفاسد، ومراعاة الأحوال والمآلات لهذا القول في عصرهم؟ فلئن كانت المعركة في عصرٍ سالفٍ معركةَ بدعةٍ وسنّة، فإن المعركة في عصرنا معركةُ كفرٍ وإسلامٍ، لا تفرِّق بين مذهبٍ ومذهب. وليس الحديثُ هنا عن مسائلِ الخلاف ذاتها: هل منهج أهل السنة في الصفات مثلًا هو في الإثبات أو التفويض أو التأويل؟ فهذه عقائد ليست مما يتغيَّر حقُّها وباطلُها بتغير الزمان، وإنَّما الحديثُ عن التصريح بسلبِ اسمِ أهل السنة عن هذا المذهب أو ذاك.

الطريق إلى إزالة الخلاف هو أن يعود الجميع إلى الأصول ذاتها، وهذا طريقه الحوار والمُدارسة العلمية لا التلفيق ونسبة المتناقضات إلى منهج واحد، فهذا مما يتنافى مع القواعد العلمية

بلى، يجبُ النظرُ في المصالح والمفاسد. فإنْ كان التصنيف يورثُ العداوات والإحن في وقتٍ الأمةُ أحوجُ ما تكون فيه إلى الاجتماع والألفة، فلا ينبغي الإصرار على تبنّي كلام بعض أهل العلم في عصرٍ من العصور، لم يكن فيه من المفاسد حينها ما نجدُه الآن. وليس في ترك التصنيف تضييعٌ للدين ولا تمييعٌ له، فإن الدين يُحفظ ببيان الحق والباطل في كل قضية من القضايا المختلف فيها، دون الحاجة إلى وصف المذهب كُلِّه بوصفٍ عام.

وهذا هو موقف الفريق الثالث: التفصيل. فيقال: خالفَ المذهبُ منهجَ أهل السنة في كذا (بحسب اعتقاد المتحدِّث)، ووافقه في كذا. ولا شكَّ أنَّ هذا التفصيل أبعدُ عن تسبيب التنازع والفرقة من التعميم على المذهب كله. ولا يُظن أن الخلاف بين الفريق الثاني والثالث شكلي، فشتّان بين أنْ تقول: فلانٌ ليس من أهل السنة، وأن تقول فلانٌ خالفَ أهلَ السنة في مسائل، وكذلك الكلامُ عن الطائفة أو المذهب.  

ومع الدعوةِ إلى تبنِّي التفصيل وتركِ التعميم، فإنَّ هذا التفصيل يجبُ حصره في الأوساط العلمية عند الحاجة إليه، وإلا فإنَّ الأولى الإمساكُ عن الخوض في هذه الخلافات في خضمِّ المعركة المشتركةِ للفريقين في ساحةِ الجهاد العسكري ضد استباحة بلاد المسلمين، وساحة الجهاد الفكريِّ ضدَّ هدم ثوابت الدين. أما مجالسُ العامة وميادينُ الدعوة فلا علاقةَ لها بهذه الخلافات، وينبغي تجنيبُها الخوضَ في هذه المسائل، »والواجبُ أمرُ العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، ومنعُهم من الخوض في التفصيل الذي يوقعُ بينهم الفرقةَ والاختلاف؛ فإنَّ الفُرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله«([5]).

التفصيل في التصنيف محصور في الأوساط العلمية عند الحاجة إليه، مع أفضلية الإمساك عن الخوض فيه أثناء المعركة المشتركة ضد ثوابت الدين، أما مجالسُ العامة وميادينُ الدعوة فلا علاقةَ لها بهذه الخلافات

ويجمُل بالفريقين حين تناولِ القضايا الخلافية في الأوساط العلمية أن يُراعوا أدبَ الخلاف، وأنْ يُنصف كلُّ مخالفٍ صاحبَه، فإنك إن كنتَ تعتقدُ أنَّك على الحقِّ في مسألةٍ وأنَّ مخالفَك على الباطل، فهو أيضًا يعتقد ذلك، فعامله بما تُحب أن يعاملك به. واقرأ معي هذا النص الأدبي الراقي: نقل الذهبيُّ في ترجمته لابن قدامة (وهو على مذهب أهل الحديث) كلامًا لأبي شامة (وهو على مذهب الأشاعرة) رحمهم الله جميعًا، قال الذهبي: »وقال أبو شامة: كان (أي ابن قدامة) إمامًا علمًا في العلم والعمل، صنَّف كتبًا كثيرة، لكنَّ كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يُوضِّح له الأمر فيها على جلالته في العلم، ومعرفته بمعاني الأخبار«.

قلتُ (والكلام للذَّهبي): »وهو (ابن قدامة) وأمثالُهُ متعجِّبٌ منكم مع علمكم وذكائكم، كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجبَ في ذلك، ونرجو لكلِّ من بذل جهده في تطَلُّب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة«([6]).

فأبو شامة لم يزد في إنكاره على ابن قدامة أن تعجب من حاله، والذهبي لم يزد على أنْ أزال سبب العَجَب بأرقِّ عبارة، ومع أن الذهبي رحمه الله يوافق ابن قدامة في مذهبه في العقائد إلا أنه لم يتعصَّب له، وأنصف كلا الفرقتين، وشملهما بدعائه، فاعجب من أدبهم جميعًا رحمهم الله تعالى.


([1]) برغم الهزات التي تتعرض لها هذه المرجعيات لأسباب ذاتية وداخلية وخارجية، ليس المقال مكان تفصيلها.

([2]) الاعتصام، للشاطبي، ص (725)، بتصرف يسير.

([3]) المرجع السابق.

([4]) تطلق مسمّيات أخرى على هذه المدارس، واخترنا الأشهر تاريخيًا للتعريف بها.

([5]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (12/ 237).

([6]) سير أعلام النبلاء، للذهبي، ترجمة ابن قدامة (13/240).

2 تعليقات

  • أحسن الله إليكم وجزاكم خيرا
    كلام متوازن فيه من الإنصاف وترجيح المصلحة الشرعية ما لو أن علماء الأمة ألتزموه لجنبوها مزالق الردى ولحقنوا الكثير من الدماء على الساحة الإسلامية عامة والسورية على وجه الخصوص ..

  • فيض الله امان فبراير 27, 2021

    فكر جميل

التعليقات مغلقة

X